حقائق عن الدين البهائي

Facts about the Bahá’í Faith


البهائية: دين سماوي أم حركة فكرية؟


ما الذي يجعل العقيدة البهائية دينا مستقلا؟ وما الفرق بين العقائد والحركات الفكرية من جهة والأديان من جهة أخرى؟


لو تمحصنا في الأديان السماوية العظمى التي حددت مسار الإنسانية عبر العصور وبنت المجتمعات والحضارات وقادت الإنسان في مراحل نشأته وتطوره، لرئينا مميزات مشتركة فيما بينها ومن أهمها الآتي:


١- ترقب الناس لمثل هذا الحدث العظيم بشكل من الأشكال.

٢- لكل منها رسولها الذي أتى بشرائعها وأحكامها وأركانها (من صلاتها وصومها وغيره)، وله مع اخوته مؤسسي الأديان الأخرى ما يميزه عنهم من ناحية وما يشاركهم فيه من ناحية أخرى من صفات سنأتي لذكرها فيما بعد في هذه المقالة. إلا ان كل منهم جاء مصدقا لمن سبقه منهم وموفيا لميثاق الله مع النبيين [۱].

٣- لكل منها كتابها الخاص(أو كتبها) التي يؤمن أتباعها بأنها منـّزلة أو موحى بها وأكثرها جاءت مصدقة لما بين أيدي الناس من الكتب السماوية الأخرى التي سبقتها. وهذا الكتاب أو هذه الكتب، يؤمن اتباعها بأنها اكبر وأهم الحجج أو الدلائل في اثبات أحقية الدعوة. وترتبط بهذا مواضيع اخرى ذات علاقة، ومنها ان في كتابات أو أقوال صاحب الرسالة (بالإضافة الى المواعظ والأحكام والتعاليم):
أ - دلائل تنم عن العلم بالغيب
ب - ألإتيان بالآيات (وهذا غير ممكن إلا بإذن الله).

٤- كل واحد منها كان له تأثير مباشر على الذين آمنوا به أولا ثم تبعه تأثير إما مباشر أو شبه مباشر على المجتمعات التي احتك بها أو جاورها و يمكن وصف هذا التأثير بأنه جذري وشديد على الناس في البداية ولكن التغيير الناتج عنه يكون دائما تغييرا ايجابيا وطويل الأمد واثماره ينتفع بها جميع البشر.

٥- قيام الناس ضد الدين الجديد ومعارضتهم الشديدة له ولرسوله وإضطهاد اتباعه الأوائل ومعاناتهم في سبيل إيمانهم.

٦- كل من مؤسسيها ورغم تعرضه لشتى انواع القسوة والإضطهاد والأذى من سكان عصره وبالذات من نفس قومه، كان في نفس الوقت مؤيدا بتأييد إلهي أدى الى انتشار أمره وغلبته الروحانية وإثبات حجـّته.

٧- إضطراب الأمور والنظم.. القوة الخالقة للكلمة الإلهية والتغييرات الناتجة عن ذلك في الحضارات الإنسانية.

٨- علامات اخرى (للتأمل) ...

*********

فلننظر الآن الى هذه النقاط بتدقيق اكثر فنرى في النقطة الاولى عن ترقب الناس (أو على الأقل بعضهم) في كل عصر، أمثلة على هذا نسردها للتوضيح، فقد كان في أقوال الأولين وقصص العبرانيين وفي الكوكب الذي ظهر لمنجمي العصر ما أنذر فرعون وكهنته وجعلهم يخشون مجيء من كان سيكون سبب هلاك فرعون وقومه مما جعل فرعون يأمر بقتل كل المواليد الذكور من بني اسرائيل ولولا حماية الله عز وجل لما نجى موسى(ع). أما في زمن سيدنا المسيح(ع) فكان لرهبان المجوس بشائر في كتبهم عن قدوم حضرته. ولما رأوا العلامات في السماء أيقنوا بحلول الأوان وأتوه بالهدايا بعد ولادته.. ثم من بعد، قام يحيى ابن زكريا (يوحنا المعمدان)(ع) بالتبشير بقرب مجيئه وقام يعمد الناس في النهر مطهرا اجسامهم وأرواحهم معا في التحضير له والتهيئة لقدومه. وقبل ظهور الرسول محمد(ص) تعاقب اربعة من الرجال في بلاد الفرس يبشرون بقرب إشراق نوره وكان قد تشرف بخدمة كل واحد منهم روزبة (الذي سمي فيما بعد بسلمان الفارسي) وكان كلما اتت المنية واحدا منهم يرسله الى الشخص الآخر الى ان أمره رابعهم في ساعاته الاخيرة ان يتوجه بعد دفنه الى الحجاز وبشره بقرب لقاء الرسول. و كذلك كان ايمان ورقة بن نوفل ايمانا فوريا بسبب النبوءات والبشارات لدى الموحدين الحنفاء في عصر الجاهلية.

أما في عصرنا هذا وقبيل مجيء حضرة الباب فكان قد بشر بظهوره كل من الشيخ أحمد الأحسائي مؤسس الفرقة الشيخية ومن بعده السيد كاظم الرشتي اللذان عداه صاحب الزمان، القائم (أو المهدي المنتظر) وأمرا تلاميذهم في ترقب مجيئه الوشيك بعد أن أسهبا في شرح صفاته وعلامات ظهوره. أما حضرة الباب فجاء بدوره مبشرا لمن سماه بـ"من يظهره الله" ومن أول دعوته وفي أول وأعظم كتبه المسمى بـ (قيوم الأسماء) قَبَلَ فداء نفسَه في سبيله بقوله الأحلى : "يا بقيّة الله قد فديت بكلّي لك ورضيت السّب في سبيلك وما تمنيت الاّ القتل في محبّتك وكفى بالله العلي معتصمًا قديمًا وكفى بالله شاهدًا ووكيلاً" وكان ذلك بالفعل ما حصل باستشهاد حضرة الباب وعشرين الفا من اتباعه في السنوات الست الأولى في سبيل الدين الجديد.

*********

النقطة الثانية:

وهي في تعاقب الرسل وتصديق كل منهم لمن سبقه، فنرى انهم جميعا عليهم السلام بنوا دياناتهم على الأسس التي وضعها رسل وأنبياء القبل، ولم يأت احد منهم ليهدم أو يقلل شأن من سبقه بل بالعكس جاء مصدقا ومعظـّما ً لهم ولأديانهم وشرائعهم ومؤمنا بهم ومؤيدا لهم، ورغم ان كل منهم جاء بشريعة منفصلة مستقلة وكاملة (و ربما فيها بعض الإختلاف عن شرائع القبل في بعض الحدود بما يناسب متطلبات عصره وحسب استعداد القوم)،.. ورغم ما نقرأه في بعض الآيات مما يحكي عن هذه الفروقات، إلا اننا في الوقت نفسه لا نرى أيا منهم كان قد فضّل نفسه على الباقين بل بالعكس. فنراهم أقروا بوحدتهم وبوحدة اديانهم كما نرى في قول المسيح(ع) بأنه "الألف والياء، الأول والآخر"(رؤية يوحنا ١:١١) وفي صحيح البخاري ومسند أحمد نرى المعنى المشابه في الحديث الشريف عندما سأل ميسرة الضبي الرسول(ص) بقوله "يا رسول الله متى كنت نبيا" أجابه حضرته: "كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد" أي انه كان أول الأنبياء وخاتمهم ايضا. وكذلك نقرأ في القرآن الكريم عن وحدة الأنبياء: "لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ"(البقرة -٢٨٥) وغيرها العديد من الآيات بنفس المعنى. وأيضا في الحديث الشريف: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة قالوا كيف يا رسول الله قال الأنبياء إخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد فليس بيننا نبي" - (مسند أحمد ٧٩٠٠)

أما في كتابات حضرة بهاء الله فنجد ايضا في مواقع كثيرة جدا تعظيما وتكبيرا لجميع الرسل والأنبياء وتصديقا للأديان وتقديسا لكتبها المنزلة وأحاديث الرسل فيتفضل مثلا: "إن‏ ‏جميع‏ ‏الأنبياء‏ ‏هم‏ ‏هياكل‏ ‏أمر‏ ‏الله‏ ‏الذين‏ ‏ظهروا‏ ‏في‏ ‏أقمصة‏ ‏مختلفة‏،‏ وإذا‏ ‏ما‏ ‏نظرت‏ ‏إليهم‏ ‏بنظر‏ ‏لطيف‏ ‏لتراهم‏ ‏جميعا‏ ‏ساكنين‏ ‏في‏ ‏رضوان‏ ‏واحد‏،‏ وطائرين‏ ‏في‏ ‏هواء‏ ‏واحد‏،‏ وجالسين‏ ‏علي‏ ‏بساط‏ ‏واحد‏، ‏وناطقين‏ ‏بكلام‏ ‏واحد‏،‏ وآمرين‏ ‏بأمر‏ ‏واحد‏. ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏اتحاد‏ ‏جواهر‏ ‏الوجود.."


وعن الرسول محمد(ص):

"ومن جملة ذلك، السلطنة التي ظهرت عن شمس الأحدية محمد عليه الصلاة والسلام. أما سمعت كيف أنه بآية واحدة قد فصل بين النور والظلمة، والسعيد والشقيّ، والمؤمن والكافر، وظهرت جميع الإشارات والدّلالات الخاصة بالقيامة التي سمعت عنها، من حشر ونشر وحساب وكتاب وغيره. كل ذلك قد ظهر وتحقق في عالم الشهود بتنزيل تلك الآية الواحدة. وهكذا كانت تلك الآية المنزلة رحمة للأبرار، أي للنفوس الذين قالوا حين الاستماع: ربنا سمعنا وأطعنا، ونقمة للفجار أي للذين قالوا بعد الاستماع سمعنا وعصينا..." (كتاب الايقان صفحة ٩٢، ٩٣)


وعن عيسى(ع):

" ثمّ اعلم بانّ الابن اذ اسلم الرّوح قد بکت الاشيآء کلّها و لکن بانفاقه روحه قد استعدّ کلّ شیءٍ کما تشهد و تری فی الخلائق اجمعين. کلّ حکيم ظهرت منه الحکمة و کلّ عالم فصّلت منه العلوم و کل صانع ظهرت منه الصّنآئع و کلّ سلطان ظهرت منه القدرة کلّها من تأييد روحه المتعالی المتصرّف المنير. و نشهد بانّه حين اذ اتی فی العالم تجلّی علی الممکنات و به طهر کلّ ابرص عن دآء الجهل و العمی و برء کلّ سقيم عن سقم الغفلة و الهوی و فتحت عين کلّ عمی و تزکّت کلّ نفس من لدن مقتدر قدير. " (اقتدارات ص ٩٣)


أما عن الشرائع والأحكام فقد صدر عن يراعة حضرة بهاء الله العديد من الكتب ومنها الكتاب الأقدس (كتاب احكام الدين البهائي). وتشمل والأحكام البهائية أحكاما مثل ما لباقي الأديان فللبهائيين صيامهم وصلاتهم وقبلتهم ووضوئهم وحجّهم وزكاتهم وقوانين الميراث وقوانين الزواج وعقوبات القاتل والسارق والزاني والحارق وغيرها مما تداولته باقي الديانات من اركان وأحكام. وكذلك يشارك البهائيون اخوتهم من باقي الأديان عقيدتهم وأيمانهم بالحياة بعد الموت وبقاء الروح الأبدي وبالثواب والعقاب وبرحمة الله وعدله وكل صفاته عز وجل وأسمائه الحسنى.

*********

النقطة الثالثة:

الكتب المنزلة هي الحجة الكبرى والبرهان الأعظم... وهذا هو المقياس الذي جاء به القرآن الكريم في إثبات دعوة الرسول(ص):

"أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"(العنكبوت ٥١)

والكلمات الإلهية الأزلية هي التي تستمر في تربية الناس وفي الحفاظ على الدين والعقيدة بعد وفاة الرسل، وبرهانها نفسها وما تشعر به القلوب حين قراءتها أو الإستماع اليها وهي ليست مثل ما يأتي به البشر مهما برعوا في ثقافتهم وفنون كتابتهم وسعة أدبهم كما نرى في الآية الكريمة: "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا"(الإسراء ٨٨) و ايضا: "وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ"(الرعد ٣٨)

وكتب البهائيين المقدسة تشمل كتابات حضرة الباب وحضرة بهاء الله. وكلاهما كتبا باللغتين العربية والفارسية مما يمكن الإطلاع عليه في الوقت الحاضر في المكتبات ودور النشر وعلى الأنترنت. ومن الجدير بالذكر ان كلا الباب وبهاء الله ترعرعا في بلاد فارس ولم يدخلا المدارس ولم يدرسا اللغة العربية التي كان لا يختص في دراستها إلا من اراد ان يصبح من رجال الدين في ذلك الوقت.

ولم يقتصر حضرة الباب فيما ترك لنا من آثاره على كتاب واحد، بل شهد له العيان بسرعة تنزيل الآيات بما لم يسبق له مثيل وجمعت في عدة كتب ومن أشهرها كتاب البيان العربي وكتاب البيان الفارسي و كتاب قيوم الأسماء والدلائل السبعة والعديد غيرها. وكذلك صدر من يراعة حضرة بهاء الله خلال الأربعين عام في النفي والحبس ما يدهش الباحث في تاريخ الأديان من غزارة التنزيل (حسب ما يؤمن به أتباعه) وعشرات الألوف من الصفحات، وجمعت في العديد من الكتب مما يزيد عن مائة مجلد ونزّل بعضها أيضا بهيئة كتب ومن اشهرها كتاب الايقان الذي تم وضعه في ضرف يومين وليلتين فقط ومن ضمن ما فيه تبيان أسباب اعراض الناس حين قدوم كل دين جديد رغم البراهين الشاملة والمحكمة التي أتى بها كل الرسل والأنبياء، وفيه ايضا توضيح معاني العديد من الآيات في الكتب الإلهية. ومن كتبه [٢] المشهورة الأخرى كتاب أحكام وشرائع الدين البهائي المسمى بالكتاب الأقدس، ومجموعة من الواح حضرة بهاء الله (نزلت بعد كتاب الاقدس) وكذلك كتاب الوديان السبعة وكتاب الكلمات المكنونة وكذلك رسائله الى الملوك والحكام ورؤساء الأديان، ناهيك عن مئات الصفحات من الأدعية والمناجاة.

وغير ما جاء في هذه الكتب من أحكام وتعاليم ووصايا لهذا العصر الذي نعيش فيه نرى العديد من الآيات فيما يخص المستقبل وأحداثه وأكثرها حصل بالفعل كما نرى في الحاشية [٣] (١٢٧٨ﻫ. = ١٨٦٢م.) في بحر يومين وليلتين لا أكثر! ، والأُخـَر للمستقبل الأبعد. وحسب أيات الكتب الإلهية فإن ذلك لا يتم إلا بإذن وأرادة الله عز وجل واختص الله بذلك الأنبياء والرسل، فنرى في التوراة مثلا، الآية: "إن السيد الرب لا يجري أمرا من غير ان يعلن سره لعبيده الأنبياء" - (سفر عاموس ٣:٧) وفي القرآن الكريم :"عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا"(الجن ٢٦-٢٧) وكذلك "ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ..."(آل عمران ٤٤).

أما عن الآيات في الكتب البهائية وفي أقوال حضرة بهاء الله (ومعناها اللغوي: العلامات، البراهين..) فنترك للزوار الكرام مهمة تحري ذلك بنفسهم دون ان نفرض عليهم مفاهيمنا وانطباعاتنا الشخصية.

*********

النقطة الرابعة:

تأثير الأديان على الأفراد وعلى المجتمعات يكون تأثيرا مشهودا واضحا ايجابيا، نافعا مفيدا، جذريا شاملا. وعندما سئل الحواريون السيد المسيح عليه السلام عن كيفية التمييز والفصل بين الرسول الحقيقي والأنبياء الكذبة في آخر الزمان تفضل حضرته: "هَكَذَا، كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَراً جَيِّداً. أَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيئَةُ، فَإِنَّهَا تُثْمِرُ ثَمَراً رَدِيئاً. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُثْمِرَ الشَّجَرَةُ الْجَيِّدَةُ ثَمَراً رَدِيئاً، وَلاَ الشَّجَرَةُ الرَّدِيئَةُ ثَمَراً جَيِّداً. وَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تُثْمِرُ ثَمَراً جَيِّداً، تُقْطَعُ وَتُطْرَحُ فِي النَّارِ. إِذَنْ مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ"(إصحاح متى ٧: ١٧-٢٠). ونرى في القرآن الكريم آيات تشابه هذا في معانيها ومنها هذه الآيات: "أَلَمْ تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكْلَهَا فِي كُلِّ حِينٍ بِإِِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهَ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ"(سورة إبراهيم آية ٢٤-٢٦) وكذلك هذ الآية الكريمة: "وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا..."(الأعراف ٥٨).

وللإيضاح، وعلى سبيل المثال، نذكر بعض ثمار دين الإسلام التي لا ينكرها إلا من كان في قلبه كراهية.. ومنها إن الإسلام اتى وظهر بين قبائل الجزيرة العربية في زمن الجاهلية وكانت هذه القبائل متشتتة في خصامها وعداواتها، تنهب وتسبي بعضها البعض في غاراتها المستمرة وتوئد المولودات من البنات من غير ذنب وغير ذلك من شراسات الجاهلية وأعمالها الوحشية مما درسناه في تاريخ العرب، وفي ضرف مدة قصيرة وبسبب ايمانهم بالله و تمسكهم بأحكام الدين الجديد والتي هي ثمرات هذا الدين، التأم شأنهم واتحدوا في حبهم لله وفي ايمانهم به، وأتحدوا في قولهم وعملهم وفتحوا الدول والأقاليم وأنشئوا حضارة عريقة باهرة أزدهرت فيها كل المعارف والعلوم والفنون يفتخر بها الناس الى يومنا الحاضر.

فما هي إذا اثمار الدين البهائي ومن أي شجرة ظهرت؟

لا يسع المجال في هذه السطور القليلة لتفصيل تعاليم الدين البهائي ويجب زيارة مواقع أخرى على الأنترنت أو صفحات أخرى في هذا الموقع للإطلاع عليها، ولكننا نذكر خاطفا بعضها هنا من دون تفصيل أو عمق لإعطاء فكرة موجزة عنها فحسب. فنذكر مثلا مبدأ تفضيل منفعة الآخرين على منفعة النفس. فيتفضل حضرة بهاء الله: "يا ابن الانسان لو تكون ناظرا الى الفضل ضع ما ينفعك و خذ ما ينتفع به العباد و ان تكن ناظرا الى العدل اختر لدونك ما تختاره لنفسك". ونذكر مبدأ واتحاد من على الأرض جميعا (كلكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد)، ومبدأ نبذ التعصبات بكل انواعها واصولها مهما كانت، ومبدأ مساواة المرأة والرجل، ومبدأ وحدانية الخالق وسموه عن إدراك العباد وتصوراتهم وعدم حلوله في الأشياء أو في أحد من العباد، ومبدأ وحدة الأديان، ومبدأ الصلح العمومي بين الدول والملل، ومبدأ ايجاد الحلول الروحانية للمشكلة الإقتصادية وتقليص الهوّة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، ومبدأ ضرورة توافق العلم والدّين.... وغيرها مما ندعوا الزوار الى دراستها في المواقع البهائية الأخرى ومنها هذا الموقع عن الدين البهائي.

*********

النقطة الخامسة:

وهي قيام الناس ضد الدين الجديد ومعارضتهم له ولرسوله واتباعه. ونرى ان هذا من سنـّة الخلق في كل الأزمان وفي تاريخ كل الأديان[٤]، والزوار الكرام لابد وان يكونوا مطلعين على قصص التوراة والانجيل والقرآن عن إعراض الناس في زمن كل رسول وإضطهادهم للمؤمنين الأوائل مما لا حاجة لسرده ثانية هنا ولكن الجدير بالذكر والتذكير هو ان أغلب أولئك المؤمنين ضحوا بسلامتهم وحتى بحياتهم دون أن يرضخوا لآلام التعذيب الجسدي والقتل أو التعذيب النفسي من مقاطعة أو حصار، وكل ما كان عليهم عمله لتفادي ذلك كان مجرد انكارهم شفهيا حقيقة الدين الجديد واحتفاظهم بإيمانهم سرا، ولكنهم فضلوا العذاب والموت على نكران عقيدتهم وبذلك شهدوا على احقيتها بأعمالهم وفداء الروح، كما كانوا قد شهدوا عليها بأقوالهم. ومن يدرس اليوم تاريخ الدين البهائي (ومن قبله الدين البابي) يرى انه منذ البداية فدى ألاف المؤمنين كل ما ملكوه وحتى ارواحهم في سبيله وسبيل انتشاره، ولم يكن ذلك عن تعصب وحمية ونبذ للحياة بل عن ايمان وايقان بأحقية دينهم الجديد.. وفي السنوات الست الأولى من دعوة حضرة الباب، انفق ما يزيد عن عشرين الف من اتباعه ارواحهم عندما قامت عليهم الدولة ورجال الدين واتباعهم وحاربوهم في كل انحاء ايران بتحريض العلماء.

ولازال الإضطهاد الى يومنا الحالي بشتى الانواع في العديد من الدول (واكثرها من دول العالم الإسلامي وخاصة ايران). وتشمل انواع الإضطهاد هذه، الطرد من الوضائف أو حضر القبول في المدارس والجامعات أو الإمتناع عن إصدار الوثائق الرسمية للبهائيين مثل شهادات الميلاد أو الزواج وغيرها مما يسبب حرمانهم من الحقوق الشخصية للمواطنين والخدمات الإجتماعية، أو مصادرة الأموال والأملاك، أو الحبس (وحتى الإعدام) في بعض الدول مثل ايران حيث حكم على أكثر من ٢٠٠ بهائي بالإعدام منذ بداية الثورة الاسلامية في عام ١٩٧٩م.

ومع حب البهائيين وتقديسهم للحياة المثمرة ومع تفاؤلهم وآمالهم في مستقبل زاهر لأنفسهم وأولادهم، نراهم لم يختاروا ولا مرة واحدة ان يخفوا انفسهم أو ينكروا هويتهم أو ديانتهم و ايمانهم، وهم في تقبلهم للإضطهاد في سبيل عقيدتهم يكونون مصدقين للآية القرآنية الكريمة: "فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ".

*********

النقطة السادسة:

عن الـتأييدات الإلهية للرسل مؤسسي الأديان رغم أذى الناس ومحاربتهم لهم. وقد يكون هناك بعض الشبه بين هذه النقطة والنقطة الخامسة أعلاه ولكن التركيز هنا هو على الرسل والأنبياء. ولا يخفى على زوار هذا الموقع تاريخ مؤسسي الأديان العظمى في العالم وما تعرضوا اليه من مقاسي وآلام ومحاربة وبالخصوص من مللهم وأقوامهم واهلهم. ونذكر كيف ان قوم أبراهيم الخليل(ع) رموه في نيران الكراهية مريدين قتله فجعلها الله له بردا وسلاما ونجـّاه ونصره وبارك في بيته ونسله. وأنجى الله يوسف(ع) من البئر والذئب ومن شر اخوته ومن كيد وإغراء زوجة العزيز ومن سجن فرعون، وأنجى موسى(ع) من شر فرعون ٍ آخر ونجى ونصر قومه، ثم نصر عيسى(ع) في انتشار رسالته في اقطار المعمورة وأنجى محمد(ص) من قريش وأذيتهم ونصره على أعدائه.. وكل ذلك حصل لأفراد كاد ينساهم التاريخ ولا يذكرهم لوداعتهم وتواضع نشأتهم، وترعرع بعضهم ايتاما ولم يدخلوا المدارس ولم يكن لهم غنى مادي أو ثروة أو سلطة، ولم يكن لهم من يدافع عنهم. وكم من وجيه وعزيز قوم وعالم وفيلسوف وحكيم وسلطان نساه الدهر ولم يبق ذكره إلا في كتب الدراسات المتخصصة بينما نرى تلك النفوس الرقيقة التي لم يكن لديها سلطة دنيوية اصبح ذكرها وثنائها على كل لسان وفي كل يوم ولم يكن ذلك إلا بنصر من الله كما يتفضل في الآية الكريمة: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ"(سورة غافر آية ٥١). أما من الجهة الأخرى فنرى ان الذين أدعوا النبوة أم الرسالة عن غير حق وبدون تخويل من الله، من الأنبياء الكذبة، لاقوا عذاب الله مستحقين، وخذلهم بعدله وأخذهم بسطوته حسب وعده ووعيده في الآية الكريمة: "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَينَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ فَمَا مِنْكُم مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ"(سورة الحاقة آية ٤٤-٤٦).

ونرى الآن في خلال قرن ونصف منذ بداية الدين البهائي ورغم القيود الخانقة التي فرضت عليه في دول مهده ونشأته، انه انتشر في كل بقاع المعمورة فيما يزيد عن ٢٣٥ دولة ومقاطعة، وله في اكثر هذه الدول انظمة إدارية معترف بها، واتباعه في هذه الأماكن يمثلون ما يزيد عن ٢,١٠٠ اقلية من اجناس العالم الإنساني بكل الوانه وحضاراته وعروقه، وأصولهم الدينية ايضا تمثل كل الأديان والعقائد الموجودة في العالم، وكتبه مترجمة الى ما يزيد عن ٨٠٠ لغة، ونشاطات الجامعة البهائية العالمية في مجالات مشاريع الأمم المتحدة في تعليم الأطفال وحقوق النساء ومحاربة الفاقة والأمراض وحقوق الإنسان وتقارب وتعاون الأديان، والحفاظ على البيئة والعدالة الإجتماعية وغيرها، نراها في مقدمة النشاطات التي تقوم بها المنظمات الغير دولية في الأمم المتحدة NGO ويشهد لها باقي المنظمات بكفاءاتها وقيادتها واستعدادها للخدمة والتعاون.

*********

النقطة السابعة:

في التغييرات التي تحصل في العالم والمجتمعات والأمور الحياتية اليومية مع قدوم الدين الجديد. ونرى نتيجة دراسة التاريخ ان الأديان المعروفة لدينا، جاءت كل مرة في تتاليها ودوراتها كمجيء الربيع مجددة للحياة وطاردة لبرد الشتاء الروحي وظلامه، وبمجيئها أينعت الحضارات وازدهرت. فإذا مضينا بتشبيه الأديان وقت قدومها بالربيع الأرضي، نرى ان موسم الربيع هو ايضا موسم المطر والعاصفة والسيل العرمرم يأتي كاسحا لما أمامه ومقيـّضا لما تراخى وتزلزل مع مرور الدهر، ومبدلا الأرض الجزرة بتربة يانعة، جديدة، غنية، مثمرة. وتتحول الصحراء الى مراعي وحقول، وهكذا تتبدل الطبيعة والعقلية الجاهلية بالعقلية النوراء رغم ان اثناء مجيء السيل والعاصفة، قد نكون لا نرى آنيـّا سوى الهيجان والدمار.

وفي وصف هذا اليوم الجديد وما نمـّر به يتفضل حضرة بهاء الله: "قد اضطربَ النظمُ من هذا النظم الاعظم و اختلفَ الترتيبُ بهذا البديع الذي ما شهدت عين الابداع شبهه"(الكتاب الأقدس ص١٧١). ومـَن منـّا اليوم لا يرى كيف ان العالم قد تغير جذريـّا في القرنين الماضيين وطفر طفرات شاسعة في كل مجالات الحياة من المجالات الإجتماعية والإقتصادية وتعامل الدول مع بعضها البعض واحتكاك وتعارف الشعوب، الى مجالات العلوم والتقنية والفنون والصنائع، الى تغيير انظمة الحكم في أغلب بلدان العالم وسقوط نجوم السلطات الدينية وأهبتها، فأين سلطنة الفاتيكان وهيمنتها على سلاطين أوربا وتحكـّمها بضمائر اتباعها الكاثوليك، واين هيمنة وتسلط الامبراطورية البريطانية أو أبهة نابليون وقيصر روسيا وملك النمسا، واين سلطنة الشاهنشاه وخلافة السلطان العثماني وسطوة الباشوات ؟ وحتى الطبيعة تغيرت.. ولكن الأهم من ذلك هو التغييرات التي حصلت في طبائع البشر، فمـَن منـّا اليوم يعتز بثقافته وتفتحه العقلي ويرضى في نفس الوقت ان يعتبر نفسه افضل من اخيه استنادا على لون جلده أو محل ولادته أو ثراء أهله، ومـَن منـّا اليوم يتصور ان بإمكان دولته الإستغناء عن باقي الدول والإكتفاء الذاتي من دون التعاون والتفاهم والتبادل مع باقي سكان المعمورة، ومـَن منـّا اليوم يصرّح علانية بضرورة استعباد الآخرين أو التقليل من شأن المرأة؟

والدين البهائي لازال في حداثة صباه، ولا تزال أعداد اتباعه قليلة جدا بالنسبة الى اتباع باقي الأديان (رغم سعة انتشاره الجغرافي في كل انحاء العالم) .. ومع ذلك انتشرت تعاليمه بين كل الشعوب وأصبحت مبادئه كلمات متداولة في محاوراتنا و جزءا من مرادفاتنا اليومية بكل اللغات حتى من دون ان يسمع الناس به أو يعرفوا اسمه. ولم يكن في قدرة اتباعه لقلتهم وقلة مصادرهم المادية ان يطرقوا الابواب على الناس ويقنعوهم بهذه المبادئ عن مساواة المرأة والرجل، ووحدة الجنس البشري، وتوافق الدين والعلم، و وحدة الأديان ومنع تجارة العبيد، والإتفاق على لغة ثانوية عالمية، والتربية العمومية لأطفال العالم، وايجاد محكمة عالمية ومنظمات ومجالس ما بين الملل، وضرورة ايجاد حلول عالمية للمشكلة الإقتصادية وتقليل الهوّة بين الفقر المدقع والغنى الفاحش (وليس بالقسر ولكن بالتهذيب والثقافة الروحية) وغير هذا من المبادئ والتعاليم التي أتى بها حضرة بهاء الله قبل حوالي ١٥٠ سنة قبل ان تحدث كل هذه التغييرات العميقة في العالم. فإذا لم يقم البهائيون بنشر هذه الأفكار لقلتهم، بل بالعكس قاومهم وحاربهم وجهاء الأرض وعلماء الأديان وحتى الملوك، إذا ً لا نرى أسبابا لإنتشارها سوى هذه الإحتمالات القليلة: إما الصدفة والحظ في كل هذه الحالات، و إما التطور الطبيعي للإنسان وتقدمه المحتوم في الثقافة والعلم والتقنية (والذي لم يحدث إلا ببطئ السلحفاة عبر آلاف السنين الى ان تحول الى طفرات الفهد وسرعة الصاروخ فجأة في القرن التاسع عشر)، وإما ما يمكن تسميته بـ "القوة الخلاقة للكلمة الإلهية" ونفوذها وتغلغلها في كل قطاعات المجتمع وكل مجالات الحياة.

*********

ملاحظات وتأملات:

انتشر الدين البهائي بين المئات وحتى الالوف من الأجناس المتباينة جدا من حيث الأفكار والعوائد والطقوس والأصول الدينية، ومنهم من كانوا في الأصل مسيحيين وغيرهم بوذيين ويهود ولا دينيين ومسلمين من الشيعة ومسلمين من السنة ومن اتباع الديانات الأصلية للهنود الحمر والأديان الأصلية في قارة افريقا وغيرها مما قد يخطر أو لا يخطر على البال. ومنهم الأطباء والمهندسين ومنهم من كانوا من علماء الدين المسلمين وخاصة في العقود الأولى من بدايته، ومنهم من كانوا قسان ومنهم الفلاحين ومنهم سكنة المدن ومنهم من سكان القرى ومنهم المثقفين أصحاب شهادات الدكتوراه ومنهم من لم يذهب الى المدارس. وفي خلال ما يقارب على ١٥٠ سنة أصبح البهائيون يمثلون العالم بأجمعه بكل الوانه وتنوعاته وكلهم أختاروه طريقة ً ومذهبا ً لهم عن قناعة وبكل رغبة وبدون اية ضغوط قسرية أو وعود تشويقية. والذين كانوا متمسكين بأديانهم جاءوا اليه ربما بسبب تحقيقه للنبوءات الموجودة في كتبهم أو بعد قراءة كتاباته وتأثيرها على قلوبهم، وغيرهم أقبلوا اليه عقليا وفكريا في البداية لقناعتهم بأهمية مبادئه في عصرنا الحاضر ومن ثم وربما بعد أشهر أو سنين أثرَ على قلوبهم أيضا مثلما استجاب لمنطقهم أولا، ومنهم من اقبل اليه عن طريق رؤية في المنام دون ان يبالي بالبراهين العقلية أو النقلية بالبتة.. وربما يكون عدد طرق أقبال الناس الى الدين البهائي مقاربا لعدد المؤمنين به فلكل منهم أسبابه ومنهم من أقبل اليه و صمد فيه وهناك من أقبل اليه لفترة طالت أم قصرت ثم تركه لسبب ما دون ان يعترض عليه أو يقف في طريقه أحد. والمهم هنا ان كل من يؤمن بالدين البهائي يكون إيمانه نتيجة تحريه الشخصي الفردي، وهو من المبادئ البهائية المهمة وحتى الذين يولدون لعوائل بهائية يعلمون ان دينهم يجب ان يكون نتيجة اختيارهم الشخصي وتحريهم الحـُر للحقيقة وليس عن وراثة أو عن صدفة الولادة في مكان أو زمان معين، ويشجعهم اهلهم على ان يدرسوا ويطـّلعوا على الأديان الاخرى في العالم وعقائد الآخرين. وليس في الدين البهائي رجال دين أو اي نوع من الرهبنة وليس فيه مبشرين محترفين بل كان انتشاره نتيجة التشجيع ان لا يتجمع اكثر افراده في مكانات محدودة بل ينتشرون في انحاء المعمورة معتمدين في أغلب الأحيان في مصاريفهم على ما يكسبوه من الرزق في البلدان التي ينتقلون اليها وكم منهم من تحمل الصعاب في البلدان الجديدة الى ان تعلموا اللغة هناك ووجدوا الرزق الى ان أصبحوا وأولادهم وأحفادهم فيما بعد من سكان تلك الدولة وهكذا انتشر الدين البهائي في اقطاب البر والبحر [٥] رغم محاولات قمعه في دول نشأته ورغم شحة موارده المالية وقلة أعداد أتباعه.

ومما يدعو ايضا الى التأمل هو حالة العالم في زمننا الحاضر وفي القرن الماضي. فعندما تحدثنا في النقطة السابعة أعلاه عما يأتي به الربيع من الحياة الجديدة والدفء والنور من ناحية بينما يأتي ايضا بالعواصف العاتية والامطار والسيول من الناحية الثانية، نجد ان بناء الصرح الجديد لا يمكن ان يقوم على انقاض الخرابات. ويتفضل السيد المسيح(ع): "لاَ أَحَدَ يَرْقَعُ ثَوْباً عَتِيقاً مِنْ قُمَاشٍ جَدِيدٍ، لأَنَّ الرُّقْعَةَ الْجَدِيدَةَ تَنْكَمِشُ، فَتَأْكُلُ مِنَ الثَّوْبِ الْعَتِيقِ، وَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَسْوَأَ! وَلاَ يَضَعُ النَّاسُ الْخَمْرَ الْجَدِيدَةَ فِي قِرَبٍ عَتِيقَةٍ؛ وَإِلاَّ، فَإِنَّ الْقِرَبَ تَنْفَجِرُ، فَتُرَاقُ الْخَمْرُ وَتَتْلَفُ الْقِرَبُ. وَلَكِنَّهُمْ يَضَعُونَ الْخَمْرَ الْجَدِيدَةَ فِي قِرَبٍ جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ الْخَمْرُ وَالْقِرَبُ مَعاً.."(الانجيل - متى ٩:١٦-١٧). فنرى اليوم ان الأفكار البالية والنظم العتيقة تهوى وتسقط بنفسها مهما جد الناس في جهادهم ومثابرتهم لترقيعها والإحتفاظ والتمسك بها. وما نراه من صراع بين الايديولوجيات المختلفة سواء تقمصت بلباس السياسة أو العلم أو العلمانية أو الدين (واكثرها اليوم من نتاج عقول البشر لسد الفراغ الناتج من تدهور الأنظمة العتيقة)، ما هو إلا محاولات خاسرة لسد الفتق هنا قبل ان نرى انه بدأ هناك ايضا ثم هناك ثم هناك. وكم من المآسي رافقت ولا تزال ترافق هذا الصراع؟ وكم من مآس اخرى افقدتنا الأمل أو نتجت في تطرفات دينية ليس لها شبه أو صلة لما جاءت به الرسل، أو بالعكس رجعت بنا الى عهود الجاهلية في تدهور الأخلاق وفي شراستنا؟ وكم من الأمراض الطبيعية تفشت بسرعة هائلة بين الجماهير والشعوب إما بسبب هذا الجهل والخرافات أو بسبب الأنانية وعدم المبالاة، أو بسبب الشهوات الحيوانية؟ وكم من كوارث في ما يتعلق بالطبيعة أو البيئة نتجت عن اهمالنا للبيئة وتخريبنا لها بسبب الجهل والطمع أو حتى التخريب المتعمد بسبب العداوات بين الدول؟

إن الله لا يحب لنا العذاب ولا يتربص فينا وفي زلاتنا ولكن لكل شيء اسباب وتترتب عليه نتائج فلو بعث الله لنا رسولا وأعرضنا عنه سنكون بمثل من كان مريضا على شفا حفرة الموت ويرفض لقاء الطبيب، بل والأدهى من ذلك يصر على اخذ دواء فقد مفعوله منذ فترة طويلة، أو دواء صنعه بيده لنفسه عن غير علم أو مهارة، أو حتى دواء كان صالحا لمرض آخر لا علاقة له بمرض اليوم. ولعل ما يجدر بنا تأمله والتفكر فيه هو هذه الآيات من القرآن الكريم ونرى فيها ان مجيء الرسل بالآيات يكون قبل العذاب وما هذا إلا من رحمة الله وعدله ليمنحنا أولا فرصة الهداية والإيمان قبل ان يصيبنا العذاب بما عملت ايدينا:

"وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى"(طه ١٣٤)
"مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَث رَسُولاً"(الإسراء ١٥)
"وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ"(القصص ٥٩)‏ ‏
"وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ"(هود ١١٧)



"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة